كما تمضي الأوقات السعيدة.. تمضي الأوقات الحزينة..
وكما تمضي ساعات البهجة والفرحة.. تمضي أيضا ساعات الألم والمحنة..
تمر الأيام بما فيها من خير وشر.. فمن رضي بقضاء الله تعالى فله الرضى.. ومن سخط فله السخط..
الذكريات في وطني تعيد نفسها كثيرا.. بل تفرض نفسها فرضا..
لكنها.. ليست ككل الذكريات..
هي أليمة حزينة.. ترتسم على الأزقة والجدران..
ترتسم على المنابر والمحابر..
ترتسم على وجوه تسبح في براءتها..
ترتسم على وجوه أرهقها الحنين والفراق..
مع كل ذلك.. تبقى نسائم الرحمة الربانية.. وألطاف الحكمة الإلهية تضفي على المحنة لذة لا يشعر بها إلا من عاشها وأحس بها..
في كل مرة يطرق العسكر باب بيتي ليلا، لينتزعوني من بين أهلي من غير سبب أو ميعاد.. أذكر ملك الموت.. الذي يأتي بغتة من غير سبب أو ميعاد أيضا..
لكنه لا يطرق بابا.. ولا ينتظر جوابا..
وفي كل مرة كنت أحبس فيها في زنزانة ضيقة صغيرة مظلمة أذكر القبر..
لا خليل ولا أنيس.. سوى العمل الصالح..
لكن!!.. في زنزانتي.. أصلي وأستغفر وأسبح وأقرأ القرآن.. وأسْبح في عالم واسع من الخيال.. دون قيود أو حدود.. دون حراس أو جنود..
أشعر بالأمل والسعادة.. فزيارة العسكر خير من زيارة ملك الموت لمن أساء العمل.. والزنزانة فيها عمل صالح أما القبر فلا عمل فيه..
ما أكبر هذا السجن.. !!
مع ذلك.. حفظت مبانيه وساحاته.. حفظت طوابقه وغرفه.. بل حفظت حراسه وجنوده.. وهم أيضا حفظوني.. وصاروا يشتاقون إلي عندما أطيل الغياب.. وهل يطيق المحب البعد عن حبيبه !!
في هذا الإعتقال الذي رقمته بالثالث عشر أو الرابع عشر- لم أعد أذكر- .. أحببت أن اكسر روتين الإعتقال العادي.. مع انه اختلف بعض الشيء.. فهي أول مرة أرى دوريات اليهود ترافق دوريات أمن وطني في شارع بلدي..
أخذوني إلى العيادة.. وسألني طبيب: هل تشكو من مرض؟ هل تشكو من شيء؟
قلت: لا.
وغبت في خيالي..
مم أشكو؟ وهل آلام الجسد آلام.. وآلام النفس إن تألمت ليست بآلام!!
مم أشكو؟ وهل آلام جسدي آلام توجعني.. وآلام أمي وأبي وزوجتي وابنتي آلام لا توجعني !!
مم أشكو؟ وإن كنت أشكو.. فهل لشكواي سميع أو مجيب غير ربي القريب!!
أجلست على كرسي بجانب العيادة.. في ظلمة الليل.. وأوصالي ترتجف من البرد..
رأيت قطة تتجول من قريب.. مددت يدي مناديا عليها.. فركضت باتجاهي ورفعت ذيلها متوددة.. ابتسمت وهمست لها في نفسي.. وضعك هنا أفضل من وضعي.. واعذريني فلا املك لك طعاما..
اقتربت مني أكثر.. حتى صار تحك جسدها برجلي.. فوضعت كفي على ظهرها ومسحت عليه برفق.. فقفزت إلى حضني.. والعسكر ينظرون بدهشة واستغراب..
إيــــه يا قطة.. حقا أنك تفهمينني وتشعرين بحالي..
ثم أخذت إلى زنزانتي.. إلى المكان الذي قضيت فيها أكثر من عام وصار من هويتي.. وربما من هوايتي أيضا..
سألوني.. ماذا فعلت ولم فعلت.. وكيف وأين ومن أين اكتسبت.. بل لماذا ولأي جهة انتميت.. ابتسمت وأجبت كما أجبت مرات من قبل.. ساعات قليلة من الأسئلة.. ثم غياب وسبات حتى تأتي الكفالة..
دخلت الغرفة.. قبل أربع سنوات، كنت في نفس الغرفة.. يا له من قدر جميل.. بل وفي نفس التاريخ تقريبا..
فقد كان ذلك الاعتقال أيضا في العشر الأوائل من ذي الحجة.. قضيتها وحدي.. وقضيت العيد وحدي وأنا أسمع صوت التكبير والتهليل في مكبرات المساجد.. وأفتش جدران الغرفة بحثا عما يرفع الهمم..
أسرعت إلى جدران الغرفة أبحث عن تلك الكتابات التي كنت أقرؤها.. تشحذ همتي وترفع عزيمتي وتقوي إيماني.. كان يكتبها من يمر في هذه الغرف من أسرى.. لكني.. لم أجد شيئا.. محيت بالدهان.. لكنها لم تمح من ذاكرتي وإن طال الزمان.. كلمات صادقة تنبع من قلوب صادقة..
آيات وأحاديث وأبيات شعر وعبارات..
لا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
الآلام تذهب ويبقى الأجر
باب السجن لا يغلق على أحد
يا رب خذ منا حتى ترضى
لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني ** لإسلامي ولو حتى إلى النيران زفوني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي ** بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة ** أو نزع إيماني ونور يقيني
وغيرها الكثير .. كلها طمست..
إلا عبارة واحدة وجدتها بعد بحث..
رحم الله رجلا دخل هنا مسلما فخرج مؤمنا..
يا الله ما أعظمها.. وما اجملها..
تزيل جبالا من الكرب والهموم.. تبدد جيوشا من الظلام..
كم من شخص يدخل وفي إيمانه ضعف.. أو في عزيمته بعض الوهن.. فيختلي بالله عز وجل ويتقرب إليه بعبادات القلب التي يغفل الكثير عنها.. فيدعوه وحده ويعلق أمله به.. إذ انقطعت كل آماله بالناس من حوله.. فلا واسطة ولا قريب ينفع..
ويرجو رحمة ربه وحده.. ويخلص له في الصلاة ويطيل السجود.. ويبكي بغزارة عندما يذكر ذنوبه.. يشعر بمعنى كل تسبيحة وتحميدة وتهليلة..
ينوي إصلاح نفسه وأهله.. والدعوة إلى الله.. ويعزم عدم العودة إلى ذنوبه.. وإن كان مقصرا في صلاة الجماعة ينوي أن يلتزم بها في المسجد.. كل هذا وهو في زنزانته..
ما أجملها من نوايا..
وأخيرا ينوي أن لا يعود إلى السجن أبدا.. لكنه يعود وإن طال الزمان.. ^_^
رحم الله رجل دخل مسلما فخرج مؤمنا…
9/10/2013 بعد يوم من الإفراج من سجن المخابرات الفلسطينية