Posts Tagged ‘خواطر عن السجن’

رحم الله امرءا دخل مسلما فخرج مؤمنا

03/02/2017

أسير

كما تمضي الأوقات السعيدة.. تمضي الأوقات الحزينة..

وكما تمضي ساعات البهجة والفرحة.. تمضي أيضا ساعات الألم والمحنة..

 

تمر الأيام بما فيها من خير وشر.. فمن رضي بقضاء الله تعالى فله الرضى.. ومن سخط فله السخط..

 

الذكريات في وطني تعيد نفسها كثيرا.. بل تفرض نفسها فرضا..

 لكنها.. ليست ككل الذكريات..

هي أليمة حزينة.. ترتسم على الأزقة والجدران..

ترتسم على المنابر والمحابر..

ترتسم على وجوه تسبح في براءتها..

ترتسم على وجوه أرهقها الحنين والفراق..

 

مع كل ذلك.. تبقى نسائم الرحمة الربانية.. وألطاف الحكمة الإلهية تضفي على المحنة لذة لا يشعر بها إلا من عاشها وأحس بها..

 

في كل مرة يطرق العسكر باب بيتي ليلا، لينتزعوني من بين أهلي من غير سبب أو ميعاد.. أذكر ملك الموت.. الذي يأتي بغتة من غير سبب أو ميعاد أيضا..

 لكنه لا يطرق بابا.. ولا ينتظر جوابا..

 وفي كل مرة كنت أحبس فيها في زنزانة ضيقة صغيرة مظلمة أذكر القبر..

 لا خليل ولا أنيس.. سوى العمل الصالح..

 لكن!!.. في زنزانتي.. أصلي وأستغفر وأسبح وأقرأ القرآن.. وأسْبح في عالم واسع من الخيال.. دون قيود أو حدود.. دون حراس أو جنود..

أشعر بالأمل والسعادة.. فزيارة العسكر خير من زيارة ملك الموت لمن أساء العمل.. والزنزانة فيها عمل صالح أما القبر فلا عمل فيه..

 

ما أكبر هذا السجن.. !!

مع ذلك.. حفظت مبانيه وساحاته.. حفظت طوابقه وغرفه.. بل حفظت حراسه وجنوده.. وهم أيضا حفظوني.. وصاروا يشتاقون إلي عندما أطيل الغياب.. وهل يطيق المحب البعد عن حبيبه !!

في هذا الإعتقال الذي رقمته بالثالث عشر أو الرابع عشر- لم أعد أذكر- .. أحببت أن اكسر روتين الإعتقال العادي.. مع انه اختلف بعض الشيء.. فهي أول مرة أرى دوريات اليهود ترافق دوريات أمن وطني في شارع بلدي.. 

أخذوني إلى العيادة.. وسألني طبيب: هل تشكو من مرض؟ هل تشكو من شيء؟

قلت: لا.

وغبت في خيالي..

 مم أشكو؟ وهل آلام الجسد آلام.. وآلام النفس إن تألمت ليست بآلام!!

مم أشكو؟ وهل آلام جسدي آلام توجعني.. وآلام أمي وأبي وزوجتي وابنتي آلام لا توجعني !!

مم أشكو؟ وإن كنت أشكو.. فهل لشكواي سميع أو مجيب غير ربي القريب!!

 

أجلست على كرسي بجانب العيادة.. في ظلمة الليل.. وأوصالي ترتجف من البرد..

رأيت قطة تتجول من قريب..  مددت يدي مناديا عليها.. فركضت باتجاهي ورفعت ذيلها متوددة.. ابتسمت وهمست لها في نفسي.. وضعك هنا أفضل من وضعي.. واعذريني فلا املك لك طعاما..

اقتربت مني أكثر.. حتى صار تحك جسدها برجلي.. فوضعت كفي على ظهرها ومسحت عليه  برفق.. فقفزت إلى حضني.. والعسكر ينظرون بدهشة واستغراب..

إيــــه يا قطة.. حقا أنك تفهمينني وتشعرين بحالي..

 

ثم أخذت إلى زنزانتي.. إلى المكان الذي قضيت فيها أكثر من عام وصار من هويتي.. وربما من هوايتي أيضا..

سألوني.. ماذا فعلت ولم فعلت.. وكيف وأين ومن أين اكتسبت.. بل لماذا ولأي جهة انتميت.. ابتسمت وأجبت كما أجبت مرات من قبل.. ساعات قليلة من الأسئلة.. ثم غياب وسبات حتى تأتي الكفالة..

دخلت الغرفة.. قبل أربع سنوات،  كنت في نفس الغرفة.. يا له من قدر جميل.. بل وفي نفس التاريخ تقريبا..

فقد كان ذلك الاعتقال أيضا في العشر الأوائل من ذي الحجة.. قضيتها وحدي.. وقضيت العيد وحدي وأنا أسمع صوت التكبير والتهليل في مكبرات المساجد.. وأفتش جدران الغرفة بحثا عما يرفع الهمم..

أسرعت إلى جدران الغرفة أبحث عن تلك الكتابات التي كنت أقرؤها.. تشحذ همتي وترفع عزيمتي وتقوي إيماني.. كان يكتبها من يمر في هذه الغرف من أسرى.. لكني.. لم أجد شيئا.. محيت بالدهان.. لكنها لم تمح من ذاكرتي وإن طال الزمان.. كلمات صادقة تنبع من قلوب صادقة..

آيات وأحاديث وأبيات شعر وعبارات..

 

لا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

الآلام تذهب ويبقى الأجر

باب السجن لا يغلق على أحد

يا رب خذ منا حتى ترضى

 

لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني ** لإسلامي ولو حتى إلى النيران زفوني

 

ضع في يدي القيد ألهب أضلعي ** بالسوط ضع عنقي على السكين

لن تستطيع حصار فكري ساعة ** أو نزع إيماني ونور يقيني

 

وغيرها الكثير .. كلها طمست..

 

إلا عبارة واحدة وجدتها بعد بحث..

رحم الله رجلا دخل هنا مسلما فخرج مؤمنا..

يا الله ما أعظمها.. وما اجملها..

تزيل جبالا من الكرب والهموم.. تبدد جيوشا من الظلام..

كم من شخص يدخل وفي إيمانه ضعف.. أو في عزيمته بعض الوهن.. فيختلي بالله عز وجل ويتقرب إليه بعبادات القلب التي يغفل الكثير عنها.. فيدعوه وحده ويعلق أمله به.. إذ انقطعت كل آماله بالناس من حوله.. فلا واسطة ولا قريب ينفع..

ويرجو رحمة ربه وحده.. ويخلص له في الصلاة ويطيل السجود.. ويبكي بغزارة عندما يذكر ذنوبه.. يشعر بمعنى كل تسبيحة وتحميدة وتهليلة..

 

ينوي إصلاح نفسه وأهله.. والدعوة إلى الله.. ويعزم عدم العودة إلى ذنوبه.. وإن كان مقصرا في صلاة الجماعة ينوي أن يلتزم بها في المسجد.. كل هذا وهو في زنزانته..

ما أجملها من نوايا..

وأخيرا ينوي أن لا يعود إلى السجن أبدا.. لكنه يعود وإن طال الزمان.. ^_^

 

رحم الله رجل دخل مسلما فخرج مؤمنا

 9/10/2013  بعد يوم من الإفراج من سجن المخابرات الفلسطينية

 

مذكرات عامين في سجون اليهود- 1 الإعتقال

24/07/2016
 
يظن البعض أن نسيان الآلام والمواجع أفضل من تذكرها، وهو ما أعتقده أيضا.. لكن آلام شعب ووطن عانى ويعاني شتى أصناف العذاب تحت حكم محتل خبيث أجدر ألا تنسى.. بل ويجب أن يعرف كل العالم عنها..
بالرغم من أنه قد مضى على يوم اعتقالي ما يقرب من 10 سنوات إلا أنني لا زلت أذكر ذلك اليوم جيدا.. أذكره بتفاصيله ومجرياته كاملا.. وكيف أنسى يوما انتزعت فيه من بين أهلي واقاربي.. حرمت فيه من الطعام والشراب، حرمت من تحريك يدي، بل وحتى من قضاء الحاجة ورؤية أي شيئ من حولي..
 

15/ أكتوبر/ 2007 

كنت حينها طالبا في بداية السنة الدراسية الثانية في جامعة النجاح الوطنية، تخصص الادب واللغة الإنجليزية، وكنت أعمل كمحفظ للقرآن الكريم في دار القرآن في بلدتي حوارة والتي تقع جنوب نابلس في الضفة المحتلة، وكان يوم الثلاثاء يوما حافلا حيث نظمنا رحلة لطلاب التحفيظ إلى الجبل، والرحل الجبلية تتطلب مجهودا بدنيا كبيرا بالإضافة إلى مهمة الإشراف على الطلاب وتنظيمهم وتطبيق برنامج الرحلة الذي ادخل السرور إلى قلوب الجميع بالإضافة إلى الفائدة..
عدت عند المساء منهكا تماما.. بالكاد استطيع جر خطواتي المتثاقلة.. دخلت البيت فوجدت امي قد حضرت العشاء، فقلت لها والله لا أجد له متسعا، فقد أكلت في الرحلة كثيرا، واكتفيت بشرب كأس من العصير، ثم أخبرت أهلي أنني سأقضي ليلتي في بيت عمتي، حيث كنت أقيم أكثر أيامي عندها بحكم انها تعيش وحدها بعد وفاة جدتي رحمها الله.. وفعلا غيرت ملابسي وذهبت هناك..
 

الإعتقال

16/ أكتوبر/ 2007 – الساعة الثانية والنصف ليلا-
مع أني كنت أغط في نوم عميق بسبب إرهاق اليوم الماضي إلا أنني استيقظت على صوت عمتي تتكلم على الهاتف بصوت مرتفع وأضواء البيت كلها مشتعلة.
– عنجد؟ طيب شو بدهم منه؟
هذا ما سمعته وأنا افتح أجفاني التي يقيدها النعاس..
قبل أن أسأل عمتي ماذا حصل بادرتني قائلة: الجيش محاصرين بيتكم وبدهم اياك، ايش في؟ شو عامل؟
لم أجد وقتا كافيا لأجيبها، قمت مسرعا، بدلت ملابسي.. ثم توجهت إلى الباب لأهرب، لكن! كان قد فات الأوان.. سمعت طرقا قويا وصراخا على الباب الأمامي.. وعرفت أنهم قد وصلوا.. توجهت إلى الباب الخلفي.. فإذا بالجنود قد احاطوا بالمنزل.. وقتها ايقنت اني لا بد واقع في ايديهم.. فقررت فتح الباب حتى لا يقومو بكسره او تفجيره.. وما ان فتحت الباب حتى وجدت نفسي ملقى على الأرض.. كل ما رأيته هو بنادق في وجهي وعشرات الجنود.. قاموا بامساك يدي والقائي على الأرض قبل أن يسألوني من انا ويتحققوا من بطاقتي الشخصية.. ووقتها اتصل الضابط بقيادته واخبرهم بأنني رهن الإعتقال..
قال لي الضابط اين جهازك الكمبيوتر.. قلت له في الداخل، ادخلني وبرفقته جنود كثر إلى الغرفة، وتقدم جندي مختص ليأخذ الذاكرة فلم يجدها، سالني أين هي؟ قلت له الجهاز معطل والذاكرة في التصليح.. فقاموا بأخذ كل حاجيتي من كتب واقراص كمبيوتر وهاتفي وحتى الكاميرا خاصتي.. ثم دفعوني خارج البيت.. وحينها وقفت عمتي وهي تبكي وحاولت أن تفهم من الجنود لماذا يعتقلوني فقام أحدهم بشدها من يدها ودفعها بقوة للداخل.. قغضبت وصرخت على الجندي إلى انهم شدوني واسرعوا بي.. وعلى بعد عدة امتار تفاجأت برؤية والدي.. تساءلت ما الذي جاء به هنا؟ فبيتنا يبعد كيلومتر تقريبا عن بيت عمتي، كما انها كان يرتدي ملابس النوم! لم أعرف إجابة لذلك إلا بعد 6 شهور في الزيارة الأولى التي تلقيتها من أهلي..
وهنا اود ان اضيف بعض الاحداث التي لم اشهدها وانما اخبرت عنها من خلال زيارات اهلي لي في السجن، وبعضها عرفته بعد الافراج عني..
وصل اليهود بيتي لاعتقالي.. وقبل ان يطرقوا الباب بدأوا بإلقاء القنابل الصوتية واطلاق الرصاص في الهواء لبث الرعب والارهاب.. وقاموا باقتياد اهلي خارج المنزل حيث عاثوا فيه فسادا، ولما لم يجدوني قاموا بضرب اخي الصغير محمود 13 عاما حينها ليقول لهم اين اختبئ، علما بأني لم اكن مختبئا، وقاموا باطلاق النار داخل بئر البيت وحفرة الامتصاص، ففقدت امي وعيها من هول الموقف.. ثم هددوا والدي بأنهم سوف يقتلونني ان لم يدلهم على مكاني، فاضطر خائفا علي ان يدلهم على بيت عمتي حيث اصطحبوه معهم مباشرة دون ان يسمحوا له بتبديل ملابسه، وبعد ان قاموا باعتقالي عادت قوة صهيونية اخرى مرة ثانية الى البيت لتفتيشه..
عندما بدأ الجنود باطلاق القنابل الصوتية والرصاص استيقظ الجيران ووقفوا على النوافذ، أحدهم كان يعرف اني لست في المنزل فاتصل على صديق له قريب لنا وأخبره بذلك فقام هذا القريب بالاتصال على بيت عمتي ليخبرها بالامر، لكن ذلك تأخر حتى وصلت القوة الصهيونية الى بيت عمتي..
وفي نفس تلك الليلة ايضا اغتالت القوات الصهيونية عدة مطلوبين في مدينة نابلس، 9 كم شمال حوارة، وقاموا باعتقال العشرات من الفلسطينيين من نابلس والبلدات المحيطة بها..
 
قام الجنود بربط يدي للخلف بـ ” مشد بلاستيكي ” وهو مؤلم جدا، كما قاموا بتعصيب عيني بقطعة قماش.. ولا زلت أذكر انني كنت ارتدي بلوزة صيفية ” نص كم”، وكان الجو وقتها باردا.. سار الجنود بي مسافة.. حيث أنهم وضعوا الجيبات والسيارات العسكرية بعيدا عن البيت وجاؤوا مشيا حتى لا أسمع صوت الدوريات واعرف بقدومهم واهرب..
 
المشد البلاستيكي الذي يستخدمه الصهاينة لتقييد الأسرى

المشد البلاستيكي الذي يستخدمه الصهاينة لتقييد الأسرى

 
أدخلوني إلى جيب الهمر.. صعد الجنود معي.. ورغم اني كنت معصب العينين إلى أنني شعرت أنني كنت ملقى على ارضية الجيب والجنود يجسلون من حولي.. حيث قاموا بضربي بأيديهم وارجلهم، للتسلية على ما يبدو لأنهم لم يسألوني أي شيئ.. وكانوا يضحكون.. وخصوصا عندما وضعوا شيئا ثقيلا على ظهري وكانه عجل احتياط للجيب او ما شابه..
 

في معسكر حوارة للإعتقال

سارت الدورية مسافة ليست بعيدة قبل ان تتوقف.. فعرفت أنهم أخذوني لمعسكر حوارة.. وهو معسكر مقام على أراضي بلدتي.. كان قد أقامه الجيش الأردني في القديم ثم احتله اليهود عام 1967.. وفعلا قاموا بإنزالي من الجيب.. وحينها كان فضل الله علي بان سقط جزء من العصبة عن عيني فرأيت امامي احد أصدقائي معتقلا ومقيدا.. حيث حاول المحققون الصهاينة لاحقا ان يخفوا انه معتقل ليتلاعبوا بي..
قام جندي بسحبي واجلسني على حجر في ساحة المعسكر.. ثم بدأ جندي يلقي أوامرا باللغة العبرية.. فسمعت صوت تجهيز السلاح، فظننت انها النهاية.. اعتقدت انهم سوف يطلقون النار علي.. ثم أصدر ذلك الضابط أمرا آخر.. فسمعت صوت الرصاص يسقط على الأرض.. وعرفت لاحقا ان الجنود يقومون بتفريغ اسلحتهم من الرصاص الذي كان معدا للإطلاق فور وصولهم إلى قواعدهم..
  
كان الجو بارد جدا.. كان جسمي يترجف من البرد القارس.. وحينها شعرت بدفئ اخترق قلبي حينما سمعت الأذان الي اعتدت سماعه.. فهو آذان المسجد الذي اصلي فيه.. – إيه، لن اصلي في المسجد اليوم.. أسأل الله أن يكتبها لي وكاني صليت في المسجد.. ثم حاولت استقبال القبلة وانا جالس على الحجر وصليت وأنا مقيد الأيدي إلى الخلف ومعصب العينين!
بعدها بفترة قصيرة تم اخذي إلى عيادة في المعسكر ليتاكدوا من وضعي الصحي.. وبعد إكمال الإجراءات تم تعصيب عيني وتقييدي مجددا لكن هذه المرة طلب الجندي مني ان ابقى واقفا ووجهي باتجاه الحائط، وهو ما يعرف بـ ” الشبح” رغم اني لم ادخل التحقيق بعد، لكن ذلك يدخل في اطار الضغط النفسي والارهاق الجسدي للاسير.. بقيت واقفا فترة طويلة.. حتى اذكر ان الشمس اشرقت واشتدت حرارتها وانا واقف.. وما كان يزيد ألمي هو تقييد يدي إلى الخلف والعصبة التي كانت شديدة على عيناي.. وفي النهاية لم استطع الوقوف اكثر فجلست.. فبدأي الجندي بالصراخ بالعبرية، فقلت له لن اقف ولا استطيع الوقوف فتركني بسبب اصراري والحاحي..
مرت ساعات عديدة على اعتقالي وشعرت بحاجة ضرورية للذهاب إلى الحمام.. ومع أني حاولت ان اصبر نفسي حتى لا أضطر لأطلب منهم، فقلت لعلهم يأخذوني غلى غرفة أو زنزانة بها حمام، إلا ان الوقت قد طال ولم يحصل ذلك، فلم اجد بدا من الطلب منهم.. فصرخت على الجندي: – حمام، بدي اروح على الحمام
فكان جوابه بالعبرية: “شيكت” ومعناها اخرس فاعدت طلبي واعاد جوابه فسكت لعدة دقاق.. لكن وضعي كان يشتد سوءا.. يداي تؤلمان بسبب المشد البلاستيكي، وعيناي تؤلمان بسبب عصبة العينين، والشمس بدأت تحرق جلدي وتشعرني بالدوار، فقد اصبح الوقت قبل الظهيرة، بالإضافة لمنعي من الذهاب إلى الحمام!
سمعت شخصا في مكان قريب حولي ينادي على الجندي بالعبرية:
– ” خيال، شيروتيم ” وتعني: جندي اريد حمام
لكن الجندي لم يستجب، فعرفت ان الطالب أسير مثلي..
بدأت ازعج الجندي اكثر بطلبي وإلحاحي، فترك المكان وذهب.. وقتها فكرت فعلا أن اقضي حاجتي في مكاني.. فهناك ظروف يمر بها المرء تجبره على التفكير بطرق مختلفة تماما.. بل والتصرف بطرق مختلفة ايضا.. فأعتقد أن تصرف الجندي الذي كاد يدفعني لأبول حيث اقف أو حتى في ملابسي هو ذات التصرف الذي قد يدفع غيري لتنفيذ عملي استشهادية او عمل انتقامي من افعالهم التي تنافي القيم والأعراف الإنسناية.. وأحمد الله ان ذلك لم يحصل ، فقد مر مجموعة من الجنود، سمعت صوتهم قريب مني، فصرخت: – شيروتيم، حمام، بدي اروح على الحمام
فال احدهم بالعربية: طيب، شوي بس
وفعلا جاء جندي وأخذني إلى الحمام، حيث قضيت حاجتي وانا معصب العينين، ومقيد الأيدي، لكن إلى الأمام هذه المرة..
بعد ذلك اعادوني إلى حيث كنت تحت اشعة الشمس، ومرت الساعات ثقيلة، ولم يتم تقديم اي طعام لي ولا حتى ماء، وكان الجنود يتناولون الطعام قريبا مني ويصدرون اصواتا ويضحكون ليستفزوني وبقية الأسرى.. وبقيت على تلك الحالة حتى اوشكت الشمس على الغروب.. حينها جاء جندي نادى اسمي، وتأكد أني انا الشخص الذي يريده، ثم قطع المربط البلاستيكي، فظننت ان الوضع سيتحسن، إلا انه وضع في يدي أصفادا حديدية تربط اليدين معا.. ثم وضع اصفادا في قدمي ايضا..
بعدها اركبوني في سيارة عسكرية غير مصفحة يسميها الأسرى ” الضبعة” لأنها تنقل الأسرى من المعسكر إلى مراكز التحقيق.. أجلسوني وحدي في غرفة حديدية وسط السيارة، وركب في الخلف جنديين وفي الامام جنديين وكلهم مسلحين.. لكنهم كانوا يخلتفون بلباسهم عن الجنود الذين اعرفهم.. وعرفت لاحقا ان هؤلاء الجنود تابعين لـ “النحشون” وهي شركة أمنية مختصة بنقل الأسرى، ومشهورة بسمعتها السيئة وتعاملها الفظ..
 
سيارة نقل الأسرى

سيارة نقل الأسرى الفلسطينيين – الضبعة بمصطلح الأسرى

 
سارت السيارة مسافة طويلة أظنها أكثر من ساعتين.. وجدت فيها فرصة لأتمدد قليلا على الكرسي لآخذ غفوة قصيرة، فلا أدري ما تخبأه الأيام لي.. وما اذكره جيدا أن سائق السيارة والجنود كانوا يطربون على سماع اغنية مصرية! يا لها من مفارقات عجيبة! وحينما وصلنا مركز التحقيق كانت الساعة تقريبا 9 مساءا.. حيث لم يتم تقديم الطعام لي هناك ايضا.. عرفت لاحقا أن إسم ذلك المكان هو مكز تحقيق الجلمة، أو كيشون بالعبرية، ويقع قرب حيفا..
وعندما أدخلوني إلى مركز التحقيق فك الجندي العصبة عن عيناي اللتين كانتا متورمتان.. وأذكر انني لم استطع رؤية شيئ لنصف ساعة او ساعة بعدها حيث ظلت عيناي معصوبتين لما يقارب 20 ساعة متواصلة!
 
يتبع في الجزء الثاني – التحقيق