حلاق
دخلت محله الصغير في شارع قريب من بيتي فانتابني ذات الشعور الذي أحس به كل مرة أدخل ذلك المكان.. مع أول خطوة أضعها داخل صالونه أشعر بنفسي أبحر سريعا إلى الماضي.. فكل شيء عنده كما هو منذ أن كنت طفلا صغيرا.. أدرك ذلك جيدا لأنني من النوع الذين لا يحبون تغيير الحلاق.. ربما تغيرت بعض ملامح وجهه.. لكن كلامه لم يتغير.. لا زال يضع تلفازا قديما جدا بالكاد تستطيع أن ترى الصورة فيه، بعض أزراره معطلة وصورته لا تستقر أبدا.. لا زالت صورة الطفلة الصغيرة التي ترتدي ثوبا أحمر وتمسك أرنبا أبيض هناك على الجدار منذ منتصف التسعينيات.. كل شيء قديم.. الكرسي والملصقات على الخزانة ولون الجدار ونقش البلاط.. صوت المقص ورائحة الكالونيا ولسعات ماكنة الحلاقة..
في كل مرة يحاول أن يفتح أحاديثا كثيرة حتى يكسر الجمود ويشعرني بمدى اهتمامه بي كزبون تجاوز سن التقاعد بالتزامي بالحلاقة عنده.. دون أن يعرف أنني لا أؤمن بتسليم رأسي لأحد غيره.. لكنه ينسى في كل مرة أنه قد حدثني نفس القصص مرات ومرات.. فأنا أعرف منذ زمن طويل أنه يحمل شهادة بكالوريوس في الجغرافيا، ولم يوفق بالعمل في شهادته.. لكنني فعلا أحس بالراحة بين يديه.. بت أحسه جزءا من عالمي الخاص.. جزءا من ذاكرتي.. ففي كل مرة أجلس على كرسيه، يسألني كل شيء عن أحوالي وأحوال أهلي وأخبارهم.. وكأنه ينتظر زيارتي لأطلعه على آخر الأخبار.. لا زلت أذكر أن كل المرات التي حلقت فيها شعري عنده وأنا في الثانوية العامة كان يحاضرني فيها عن أهمية الدراسة وصعوبة هذه المرحلة..
كان كل شيء هناك روتينيا.. كلاسيكيا.. فيه رتابة مملة.. إلا المرآة.. كنت أشتاق النظر إليها لأرى انعكاس وجهي.. وكأنها مقياس يقيس التغير الذي يحصل بين أوقات الحلاقة.. واليوم فعلت نفس الشيء.. حدقت في المرأة.. فلم أر الطفل الصغير الذي لم تكن تثقل الهموم كاهليه.. ولم أر الشاب الذي تبرق عينيه بأحلام أكبر من السحاب.. رأيت اليوم واقعا في انعكاس الصورة.. شيبا يغزو اللحية.. وتجاعيدا تخط طريقها في الوجه.. وعيونا تنطفئ فيها لمعة الإنطلاق إلى البعيد..
قطعت رائحة الكالونيا القوية حبل تفكيري عندما دهن بها رقبتي فاشتعلت الحرارة مكان استخدامه للموس.. وقال: الله يجعله نعيما، بانتظارك الشهر الجاي.
اترك تعليق