أنا والموت.. ذكريات مؤلمة من فلسطين

رحيل

الذكريات في وطني تعيد نفسها كثيرا.. بل تفرض نفسها فرضا..
لكنها.. ليست ككل الذكريات..
هي أليمة حزينة.. ترتسم على الأزقة والجدران..
ترتسم على المنابر والمحابر..
ترتسم على وجوه تسبح في براءتها..
ترتسم على وجوه أرهقها الحنين والفراق..
الذكريات في فلسطين أكبر من أن تحتويها ذاكرة وأصعب من أن يحملها قلب..
ومع ذلك هي محفوظة كالنقش في الحجر.. لا تزول أبدا..
كمواطن فلسطيني عادي، شهدت الموت بنفسي مرات ومرات كثيرة واصيب واستشهد قربي وامام ناظري كثير.. مواقف لا انساها أبدا.. وهل يُنسى الأسى!
مدرسة حوارة الثانوية
كنت طالبا في الصف الثامن عام 2002 على ما اذكر.. كانت انتفاضة الأقصى ملتهبة وقتها بسبب زيارة رئيس الوزراء الصهيوني شارون وتدنسيه لباحات المسجد الأقصى، وكان قد مر على الانتفاضة عام كامل تقريبا.. سقط خلاله مئات الشهداء والاف المصابين..
كانت مدرستي تبعد قريبا من كيلومترين عن بيتي، وبلدة حوارة التي اعيش فيها يشقها شارع عام يمر منه المستوطنون الصهاينة.. وهو ذات الشارع الذي كنت اسير فيه يوميا للوصول إلى المدرسة.. وفي أحد الأيام وعند وصولنا الى مفترق المدرسة قام مجموعة من الطلاب بالقاء حجارة على سيارة احد المستوطنين كردة فعل طبيعية للجرائم الصهيونية التي كانت تشهدها كل أرجاء فلسطين.. وما ان اصطدمت الحجارة بالسيارة حتى فر جميع الطلاب باتجاه المدرسة التي كانت تبعد تقريبا 50 متر  وكنت من ضمن الفتيان الهاربين باتجاه المدرسة عندما سمعت صوت اطلاق نار متتابع يصم الاذان.. وكنت اسمع صوت ارتطام الرصاص من حولي..
لا زلت أذكر جيدا صراخ الطالب الذي كان يركض بجانبي ” تصاوبت.. تصاوبت” كنت انظر اليه وانا اركض واظن انه يمزح، وافكر كيف يمكنه الركض وهو مصاب.. كان يضع يده على بطنه وهو يصرخ.. فنظرت إلى ظهره فإذا بقعة كبيرة من الدماء تغطي زيه المدرسي.. وكانت رصاصة متفجرة حاقد اخترقت ظهره واصابت اعضاءه قبل ان تخرج من بطنه وتصيب طالبا اخر.. كانت المسافة بيننا لا تتجاوز مترا ونصف.. لا أكذب حين أقول انني تمنيت ان أكون مكانه حينها لا أدري تمام لماذا..
الحمد لله شفي بعد عدة عمليات جراحية استمرت عدة سنوات..

طريق تل- نابلس

كنت حينها طالبا في الصف العاشر.. عام 2004 وكانت احداث الانتفاضة لا زالت ملتهبة والطرق بين المدن مغلقة بالحواجز والسواتر الترابية.. قرر والدي يومها الذهاب لمدينة نابلس التي لا تبعد عن بلدتي سوى 7 كيلومترات، كانت الرحلة تستغرق حينها عدة ساعات عبر الجبال والوديان.. كان الناس كثر.. بينهم طلاب الجامعات والمعلمون والمحامون والمرضى والعاملون وكل اصناف المجتمع.. كلهم يريدون صعود ذلك الجبل كي يتجاوزوا حاجزا نصبه الاحتلال ومنع الناس من المرور.. وقبل ان نبدأ صعود الجبل انهمرت علينا قنابل الغاز المسيل للدموع.. سقطت احدى القنابل مترين او ثلاثة قربنا.. وقبل ان تنفجر وتبدأ بضخ غازها السام المؤلم صاح أحدهم ” واحد منكم يرميها بعيد بسرعة!” مع انني كنت صغيرا وقتها وكان هناك عشرات الرجال حولي شعرت وكأنه واجبي.. واجبي وحدي.. قفزت الى المكان الذي سقطت فيه وكانت في شجيرة شوكية صغيرة على جانب الطريق الذي يقف فيه الناس وكان المكان مرتفعا عن الشارع مترا تقريبا.. اقتربت منها سريعا ومددت يدي لاتناولها.. لكن! لم يسعفني الوقت، انفجرت وانبعث الغاز دفعة واحدة في وجهي.. ولا أذكر ما حصل أبدا حينها، فحسب ما قالته جدتي التي كانت ترافقنا يومها فإني قد فقدت الوعي مباشرة قبل ان اسقط إلى الشارع، حيث انني استنشقت كمية كبيرة من الغاز السام الذي كاد يودي بحياتي، وتم نقلي الى الاسعاف واستعدت وعيي وصحتي والحمد لله بعد عدة ساعات..
أحداث كثيرة حصلت اثناء داراستي في الثانوية نجوت من كثير منها بأعجوبة، وما ان التحقت بالجامعة حتى اعقلني المحتل واودعني سجونه لعامين وفي تلك الفترة بين عامي 2007 و 2009 هدأت الأحداث نسبيا في الضفة الغربية..
وفي الأعوام القليل الماضية شهدت الموت مجددا أمام ناظري..
اصعبها استشهاد الأخوين والصديقين خالد عودة وطيب شحادة الذين قُتلا امام عيني وقربي.. وكنت قد  كتبت عنهما بشكل منفصل..
وغيرها مما أوجع قلبي وفطر فؤادي وانا مكتوف اليدين..

   سبتمبر 2015 – مدخل نابلس الغربي

 كنت متوجها بسيارتي ليلا برفقة عائلتي إلى مدينة نابلس من الجهة الغربي وقبل مفترق قوصين تفاجئنا بتوقف السير امامنا بثلاث او اربع سيارات بعد صوت اطلاق نار، ترجلت من السيارة لأرى جيبات عسكري اسرائيلية تقيم حاجزا على الطريق، سألت أحد الاشخاص الذين كانوا متواجدين في المكان فأجاب ان الجنود اطلقوا النار على احد السيارات واشار اليها، فانفجر قلبي من الألم عندما علمت ان احدهم مصاب داخل السيارة.. حاولت الاقتراب من السيارة فمنعني الجنود واشهروا اسلحتهم في وجهي وصاروا يصرخون بأعلى صوتهم.. بدأت أتصل بأصدقائي من الصحفيين في الوقت الذي وصلت فيه سيارات الإسعاف.. فقام الجنود أيضا بمنع المسعفين من الاقتراب من المصاب.. فحاولت اقناع المسعفين بعدم الانصياع للجنود وقلت لهم سنقترب جميعا من السيارة رغم انف الجنود ونأخذ المصاب.. لكنهم لم يجازفوا لان الجنود كانوا على استعداد لاطلاق النار على اي شخص يقترب.. وبعد انقضاء حوالي نصف ساعة قام مجموعة من الجنود باخراج المصاب من السيارة على نقالة وادخلوه احد الجبيات العسكرية قبل ان ينقلوه إلى جهة مجهولة.. نظرت إليه بحزن عميق.. لا أدري أحزني عليه لأنه لا يحرك ساكنا.. أم حزني على نفسي لأنني أنا أيضا لم أحرك ساكنا!!
انسحب الجنود وفتحوا الطريق.. ومرت ايام قليلة وصورته لا زالت أمام عيني حتى علمت انه استشهد رحمه الله.. وعلمت انه من بلدة بيت فوريك

حاجز حوارة.. حاجز الموت

23/11/2015
كنت متوجها إلى مدينة نابلس بسيارتي عندما وصلت الحاجز سيئ الصيت والسمعة والذي سمي باسم بلدتي ” حاجز حوارة” حيث كانت هناك أزمة سيارات كبيرة وسط صراخ بعض الناس ان هناك شهيد.. تجاوزت بسيارتي عن مجموعة من السيارات لأرى مشهدا مؤلما جديدا يضاف إلى قائمة طويلة جدا.. وفي كل مرة أقول هذا المشهد هو الأقسى على قلبي.. كانت سيارة متوقفة الى يسار الطريق.. زجاجها الخلفي قد هشمه الرصاص.. واختار من بين ركاب السيارة رأس الفتاة سماح عبد المؤمن 18 عاما ليستقر فيه.. ليسقط رأسها على كتف امها.. ويسيل دمها الطاهر على أكف والدها وشقيقتها.. سقط رأسها وسقطت معه كل الرؤوس.. سقط معه رأسي وقلبي.. حملوها إلى الأرض ودماها تتدفق على الأرض التي سرقها المحتل منا.. والله ان الكلمات لتعجز عن وصف ذلك المشهد..  استشهدت سماح رحمها الله بعد عدة اسابيع في المستشفى.. وكان الرصاص قد اصابها عندما اطلق الجنود النار على شاب فلسطيني كان يمر بالقرب من الحاجز قتل هو ايضا..
سماح عبد المؤمن

التقطت هذه الصورة بكاميرا هاتفي في 23/11/2015 من مكان استشهاد الفتاة سماح عبد المؤمن عند حاجز حوارة

 

تلك الأحداث جزء من ذاكرتي التي لا أريدها ان تنسى، وكم من ذكرى مؤلمة حصلت على هذه الأرض..
إيــــــــــــــــــه يا فلسطين.. لك الله..
نسأل الله الصبر والثبات وأجر الرباط..
امين

الأوسمة: , , , , , , , , , , , , , , ,

رد واحد to “أنا والموت.. ذكريات مؤلمة من فلسطين”

  1. شهد Says:

    ما شاء الله.. إبداع

    إعجاب

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.