يظن البعض أن نسيان الآلام والمواجع أفضل من تذكرها، وهو ما أعتقده أيضا.. لكن آلام شعب ووطن عانى ويعاني شتى أصناف العذاب تحت حكم محتل خبيث أجدر ألا تنسى.. بل ويجب أن يعرف كل العالم عنها..
بالرغم من أنه قد مضى على يوم اعتقالي ما يقرب من 10 سنوات إلا أنني لا زلت أذكر ذلك اليوم جيدا.. أذكره بتفاصيله ومجرياته كاملا.. وكيف أنسى يوما انتزعت فيه من بين أهلي واقاربي.. حرمت فيه من الطعام والشراب، حرمت من تحريك يدي، بل وحتى من قضاء الحاجة ورؤية أي شيئ من حولي..
15/ أكتوبر/ 2007
كنت حينها طالبا في بداية السنة الدراسية الثانية في جامعة النجاح الوطنية، تخصص الادب واللغة الإنجليزية، وكنت أعمل كمحفظ للقرآن الكريم في دار القرآن في بلدتي حوارة والتي تقع جنوب نابلس في الضفة المحتلة، وكان يوم الثلاثاء يوما حافلا حيث نظمنا رحلة لطلاب التحفيظ إلى الجبل، والرحل الجبلية تتطلب مجهودا بدنيا كبيرا بالإضافة إلى مهمة الإشراف على الطلاب وتنظيمهم وتطبيق برنامج الرحلة الذي ادخل السرور إلى قلوب الجميع بالإضافة إلى الفائدة..
عدت عند المساء منهكا تماما.. بالكاد استطيع جر خطواتي المتثاقلة.. دخلت البيت فوجدت امي قد حضرت العشاء، فقلت لها والله لا أجد له متسعا، فقد أكلت في الرحلة كثيرا، واكتفيت بشرب كأس من العصير، ثم أخبرت أهلي أنني سأقضي ليلتي في بيت عمتي، حيث كنت أقيم أكثر أيامي عندها بحكم انها تعيش وحدها بعد وفاة جدتي رحمها الله.. وفعلا غيرت ملابسي وذهبت هناك..
الإعتقال
16/ أكتوبر/ 2007 – الساعة الثانية والنصف ليلا-
مع أني كنت أغط في نوم عميق بسبب إرهاق اليوم الماضي إلا أنني استيقظت على صوت عمتي تتكلم على الهاتف بصوت مرتفع وأضواء البيت كلها مشتعلة.
– عنجد؟ طيب شو بدهم منه؟
هذا ما سمعته وأنا افتح أجفاني التي يقيدها النعاس..
قبل أن أسأل عمتي ماذا حصل بادرتني قائلة: الجيش محاصرين بيتكم وبدهم اياك، ايش في؟ شو عامل؟
لم أجد وقتا كافيا لأجيبها، قمت مسرعا، بدلت ملابسي.. ثم توجهت إلى الباب لأهرب، لكن! كان قد فات الأوان.. سمعت طرقا قويا وصراخا على الباب الأمامي.. وعرفت أنهم قد وصلوا.. توجهت إلى الباب الخلفي.. فإذا بالجنود قد احاطوا بالمنزل.. وقتها ايقنت اني لا بد واقع في ايديهم.. فقررت فتح الباب حتى لا يقومو بكسره او تفجيره.. وما ان فتحت الباب حتى وجدت نفسي ملقى على الأرض.. كل ما رأيته هو بنادق في وجهي وعشرات الجنود.. قاموا بامساك يدي والقائي على الأرض قبل أن يسألوني من انا ويتحققوا من بطاقتي الشخصية.. ووقتها اتصل الضابط بقيادته واخبرهم بأنني رهن الإعتقال..
قال لي الضابط اين جهازك الكمبيوتر.. قلت له في الداخل، ادخلني وبرفقته جنود كثر إلى الغرفة، وتقدم جندي مختص ليأخذ الذاكرة فلم يجدها، سالني أين هي؟ قلت له الجهاز معطل والذاكرة في التصليح.. فقاموا بأخذ كل حاجيتي من كتب واقراص كمبيوتر وهاتفي وحتى الكاميرا خاصتي.. ثم دفعوني خارج البيت.. وحينها وقفت عمتي وهي تبكي وحاولت أن تفهم من الجنود لماذا يعتقلوني فقام أحدهم بشدها من يدها ودفعها بقوة للداخل.. قغضبت وصرخت على الجندي إلى انهم شدوني واسرعوا بي.. وعلى بعد عدة امتار تفاجأت برؤية والدي.. تساءلت ما الذي جاء به هنا؟ فبيتنا يبعد كيلومتر تقريبا عن بيت عمتي، كما انها كان يرتدي ملابس النوم! لم أعرف إجابة لذلك إلا بعد 6 شهور في الزيارة الأولى التي تلقيتها من أهلي..
وهنا اود ان اضيف بعض الاحداث التي لم اشهدها وانما اخبرت عنها من خلال زيارات اهلي لي في السجن، وبعضها عرفته بعد الافراج عني..
وصل اليهود بيتي لاعتقالي.. وقبل ان يطرقوا الباب بدأوا بإلقاء القنابل الصوتية واطلاق الرصاص في الهواء لبث الرعب والارهاب.. وقاموا باقتياد اهلي خارج المنزل حيث عاثوا فيه فسادا، ولما لم يجدوني قاموا بضرب اخي الصغير محمود 13 عاما حينها ليقول لهم اين اختبئ، علما بأني لم اكن مختبئا، وقاموا باطلاق النار داخل بئر البيت وحفرة الامتصاص، ففقدت امي وعيها من هول الموقف.. ثم هددوا والدي بأنهم سوف يقتلونني ان لم يدلهم على مكاني، فاضطر خائفا علي ان يدلهم على بيت عمتي حيث اصطحبوه معهم مباشرة دون ان يسمحوا له بتبديل ملابسه، وبعد ان قاموا باعتقالي عادت قوة صهيونية اخرى مرة ثانية الى البيت لتفتيشه..
عندما بدأ الجنود باطلاق القنابل الصوتية والرصاص استيقظ الجيران ووقفوا على النوافذ، أحدهم كان يعرف اني لست في المنزل فاتصل على صديق له قريب لنا وأخبره بذلك فقام هذا القريب بالاتصال على بيت عمتي ليخبرها بالامر، لكن ذلك تأخر حتى وصلت القوة الصهيونية الى بيت عمتي..
وفي نفس تلك الليلة ايضا اغتالت القوات الصهيونية عدة مطلوبين في مدينة نابلس، 9 كم شمال حوارة، وقاموا باعتقال العشرات من الفلسطينيين من نابلس والبلدات المحيطة بها..
قام الجنود بربط يدي للخلف بـ ” مشد بلاستيكي ” وهو مؤلم جدا، كما قاموا بتعصيب عيني بقطعة قماش.. ولا زلت أذكر انني كنت ارتدي بلوزة صيفية ” نص كم”، وكان الجو وقتها باردا.. سار الجنود بي مسافة.. حيث أنهم وضعوا الجيبات والسيارات العسكرية بعيدا عن البيت وجاؤوا مشيا حتى لا أسمع صوت الدوريات واعرف بقدومهم واهرب..

المشد البلاستيكي الذي يستخدمه الصهاينة لتقييد الأسرى
أدخلوني إلى جيب الهمر.. صعد الجنود معي.. ورغم اني كنت معصب العينين إلى أنني شعرت أنني كنت ملقى على ارضية الجيب والجنود يجسلون من حولي.. حيث قاموا بضربي بأيديهم وارجلهم، للتسلية على ما يبدو لأنهم لم يسألوني أي شيئ.. وكانوا يضحكون.. وخصوصا عندما وضعوا شيئا ثقيلا على ظهري وكانه عجل احتياط للجيب او ما شابه..
في معسكر حوارة للإعتقال
سارت الدورية مسافة ليست بعيدة قبل ان تتوقف.. فعرفت أنهم أخذوني لمعسكر حوارة.. وهو معسكر مقام على أراضي بلدتي.. كان قد أقامه الجيش الأردني في القديم ثم احتله اليهود عام 1967.. وفعلا قاموا بإنزالي من الجيب.. وحينها كان فضل الله علي بان سقط جزء من العصبة عن عيني فرأيت امامي احد أصدقائي معتقلا ومقيدا.. حيث حاول المحققون الصهاينة لاحقا ان يخفوا انه معتقل ليتلاعبوا بي..
قام جندي بسحبي واجلسني على حجر في ساحة المعسكر.. ثم بدأ جندي يلقي أوامرا باللغة العبرية.. فسمعت صوت تجهيز السلاح، فظننت انها النهاية.. اعتقدت انهم سوف يطلقون النار علي.. ثم أصدر ذلك الضابط أمرا آخر.. فسمعت صوت الرصاص يسقط على الأرض.. وعرفت لاحقا ان الجنود يقومون بتفريغ اسلحتهم من الرصاص الذي كان معدا للإطلاق فور وصولهم إلى قواعدهم..
كان الجو بارد جدا.. كان جسمي يترجف من البرد القارس.. وحينها شعرت بدفئ اخترق قلبي حينما سمعت الأذان الي اعتدت سماعه.. فهو آذان المسجد الذي اصلي فيه.. – إيه، لن اصلي في المسجد اليوم.. أسأل الله أن يكتبها لي وكاني صليت في المسجد.. ثم حاولت استقبال القبلة وانا جالس على الحجر وصليت وأنا مقيد الأيدي إلى الخلف ومعصب العينين!
بعدها بفترة قصيرة تم اخذي إلى عيادة في المعسكر ليتاكدوا من وضعي الصحي.. وبعد إكمال الإجراءات تم تعصيب عيني وتقييدي مجددا لكن هذه المرة طلب الجندي مني ان ابقى واقفا ووجهي باتجاه الحائط، وهو ما يعرف بـ ” الشبح” رغم اني لم ادخل التحقيق بعد، لكن ذلك يدخل في اطار الضغط النفسي والارهاق الجسدي للاسير.. بقيت واقفا فترة طويلة.. حتى اذكر ان الشمس اشرقت واشتدت حرارتها وانا واقف.. وما كان يزيد ألمي هو تقييد يدي إلى الخلف والعصبة التي كانت شديدة على عيناي.. وفي النهاية لم استطع الوقوف اكثر فجلست.. فبدأي الجندي بالصراخ بالعبرية، فقلت له لن اقف ولا استطيع الوقوف فتركني بسبب اصراري والحاحي..
مرت ساعات عديدة على اعتقالي وشعرت بحاجة ضرورية للذهاب إلى الحمام.. ومع أني حاولت ان اصبر نفسي حتى لا أضطر لأطلب منهم، فقلت لعلهم يأخذوني غلى غرفة أو زنزانة بها حمام، إلا ان الوقت قد طال ولم يحصل ذلك، فلم اجد بدا من الطلب منهم.. فصرخت على الجندي: – حمام، بدي اروح على الحمام
فكان جوابه بالعبرية: “شيكت” ومعناها اخرس فاعدت طلبي واعاد جوابه فسكت لعدة دقاق.. لكن وضعي كان يشتد سوءا.. يداي تؤلمان بسبب المشد البلاستيكي، وعيناي تؤلمان بسبب عصبة العينين، والشمس بدأت تحرق جلدي وتشعرني بالدوار، فقد اصبح الوقت قبل الظهيرة، بالإضافة لمنعي من الذهاب إلى الحمام!
سمعت شخصا في مكان قريب حولي ينادي على الجندي بالعبرية:
– ” خيال، شيروتيم ” وتعني: جندي اريد حمام
لكن الجندي لم يستجب، فعرفت ان الطالب أسير مثلي..
بدأت ازعج الجندي اكثر بطلبي وإلحاحي، فترك المكان وذهب.. وقتها فكرت فعلا أن اقضي حاجتي في مكاني.. فهناك ظروف يمر بها المرء تجبره على التفكير بطرق مختلفة تماما.. بل والتصرف بطرق مختلفة ايضا.. فأعتقد أن تصرف الجندي الذي كاد يدفعني لأبول حيث اقف أو حتى في ملابسي هو ذات التصرف الذي قد يدفع غيري لتنفيذ عملي استشهادية او عمل انتقامي من افعالهم التي تنافي القيم والأعراف الإنسناية.. وأحمد الله ان ذلك لم يحصل ، فقد مر مجموعة من الجنود، سمعت صوتهم قريب مني، فصرخت: – شيروتيم، حمام، بدي اروح على الحمام
فال احدهم بالعربية: طيب، شوي بس
وفعلا جاء جندي وأخذني إلى الحمام، حيث قضيت حاجتي وانا معصب العينين، ومقيد الأيدي، لكن إلى الأمام هذه المرة..
بعد ذلك اعادوني إلى حيث كنت تحت اشعة الشمس، ومرت الساعات ثقيلة، ولم يتم تقديم اي طعام لي ولا حتى ماء، وكان الجنود يتناولون الطعام قريبا مني ويصدرون اصواتا ويضحكون ليستفزوني وبقية الأسرى.. وبقيت على تلك الحالة حتى اوشكت الشمس على الغروب.. حينها جاء جندي نادى اسمي، وتأكد أني انا الشخص الذي يريده، ثم قطع المربط البلاستيكي، فظننت ان الوضع سيتحسن، إلا انه وضع في يدي أصفادا حديدية تربط اليدين معا.. ثم وضع اصفادا في قدمي ايضا..
بعدها اركبوني في سيارة عسكرية غير مصفحة يسميها الأسرى ” الضبعة” لأنها تنقل الأسرى من المعسكر إلى مراكز التحقيق.. أجلسوني وحدي في غرفة حديدية وسط السيارة، وركب في الخلف جنديين وفي الامام جنديين وكلهم مسلحين.. لكنهم كانوا يخلتفون بلباسهم عن الجنود الذين اعرفهم.. وعرفت لاحقا ان هؤلاء الجنود تابعين لـ “النحشون” وهي شركة أمنية مختصة بنقل الأسرى، ومشهورة بسمعتها السيئة وتعاملها الفظ..

سيارة نقل الأسرى الفلسطينيين – الضبعة بمصطلح الأسرى
سارت السيارة مسافة طويلة أظنها أكثر من ساعتين.. وجدت فيها فرصة لأتمدد قليلا على الكرسي لآخذ غفوة قصيرة، فلا أدري ما تخبأه الأيام لي.. وما اذكره جيدا أن سائق السيارة والجنود كانوا يطربون على سماع اغنية مصرية! يا لها من مفارقات عجيبة! وحينما وصلنا مركز التحقيق كانت الساعة تقريبا 9 مساءا.. حيث لم يتم تقديم الطعام لي هناك ايضا.. عرفت لاحقا أن إسم ذلك المكان هو مكز تحقيق الجلمة، أو كيشون بالعبرية، ويقع قرب حيفا..
وعندما أدخلوني إلى مركز التحقيق فك الجندي العصبة عن عيناي اللتين كانتا متورمتان.. وأذكر انني لم استطع رؤية شيئ لنصف ساعة او ساعة بعدها حيث ظلت عيناي معصوبتين لما يقارب 20 ساعة متواصلة!
يتبع في الجزء الثاني – التحقيق
الأوسمة: مذكرات أسير فلسطيني, مذكرات الأسرى, مذكرات الأسرى الفلسطينيين, مذكرات الإعتقال, مذكرات الإعتقال عن اليهود, مذكرات السجن, مذكرات سجون اليهود, المدون سامر عودة, الإعتقال في سجون اليهود, خواطر عن السجن, خاطرة معتقل, خاطرة عن السجن
اترك تعليق